بقلم د. عمر عبد المنان، د. جيمس سميث، البروفيسور نيك ماينارد، د. أنج سوي تشاي، د. غسان أبو ستة
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
“أنا فخور بتقديم المملكة المتحدة الرعاية الطبية المنقذة للحياة لهؤلاء الأطفال الأوكرانيين، الذين أجبروا على مغادرة وطنهم بسبب الغزو الروسي أثناء خضوعهم للعلاج”، هذا ما صرّح به ساجد جاويد، حين كان وزيراً للصحة في المملكة المتحدة في مارس/آذار 2022.
في غضون أسابيع من الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، سهّلت حكومة المملكة المتحدة إجلاء 21 طفلاً أوكرانيًا مصابًا بالسرطان، ونسقت علاجهم من خلال هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS).
وعلى النقيض من ذلك، تم السماح أخيراً في الأسبوع الماضي لطفلين فقط من غزة بدخول المملكة المتحدة لتلقي العلاج الطبي، ولكن بعد 17 شهرًا من الضغط الدؤوب.
لم يتم اختيارالطفلين بالذات لأنهما من بين أكثر المصابين بجروح بالغة جراء عدوان الاحتلال على غزة، بل على العكس تماماً، حيث يبدو تشخيص حالتيهما أكثر حيادية في الجانب السياسي، فهما يعانيان من حالات خلقية لا علاقة لها مباشرة بعنف الاحتلال المتواصل في غزة.
وتكمن حقيقة أكثر قتامة وراء ما قد يعتبره البعض انتصارًا للعمل الإنساني البريطاني، فهذان هما الطفلان الفلسطينيان الوحيدان الذان وافقت حكومة المملكة المتحدة على استقبالهما من بين جميع اللذين يحتاجون إلى رعاية طبية منذ أن اشتدت وتيرة عدوان الاحتلال على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
لم تُنسّق وزارة الخارجية رعاية الطفلين، ولن تُقدّمها هيئة الخدمات الصحية الوطنية، بل تمّ ترتيب علاجهم من القطاع خاص، ومُوِّل بالكامل من التبرعات، وسهّله تحالف من الأطباء والمحامين والمتطوعين من خلال منظمة “مشروع الأمل النقي” غير الحكومية.
ولم تكتفِ حكومة المملكة المتحدة بالتقصير في المساعدة، بل عرقلت بالفعل جهود نقل الأطفال المصابين بجروح بالغة إلى مستشفيات المملكة المتحدة لتلقي العلاج الضروري، ومن بينهم الذين يعانون من جروح ناجمة عن انفجارات وبتر وحروق.
عرقلة سياسية
وواصل مسؤولون من وزارتي الداخلية والخارجية رفض منح التأشيرات لجلب المصابين من غزة، متذرّعين بأسباب لوجستية أو طبية أو أمنية مزعومة، في أعذار تسقط عند أدنى تدقيق، لأننا نعلم أن حكومة المملكة المتحدة قد سهّلت، عن حق طبعاً، نقل وعلاج الأطفال من أوكرانيا وسوريا وأفغانستان في السنوات الأخيرة.
ظلّت هذه العراقيل قائمة، على الرغم من استعداد العديد من مستشفيات المملكة المتحدة تقديم العون في هذا المجال، فقد عرضت مراكز طب الأطفال الرئيسية في لندن وبرمنغهام ومانشستر تقديم رعاية عالمية المستوى في مجال الصدمات وجراحة العظام والجراحة التجميلية وإعادة التأهيل، وتطوّع جراحون ومتخصصون آخرون، وتم تأمين تمويل خيري، ومع ذلك عرقلت حكومة المملكة المتحدة كل شيء.
بل إن البارونة أرمينكا هيليك، العضوة المحافظة في البرلمان البريطاني، أدانت تقاعس الحكومة البريطانية، واصفةً إياه بـ”ازدواجية المعايير”.
لا يمكن النظر لذلك باعتباره مجرد إخفاق بيروقراطي، بل هو عرقلة سياسية سافرة، فقد استبعد عشرات الآلاف من الأطفال الذين أصيبوا جراء عنف الاحتلال في غزة بينما سُمح في النهاية بدخول طفلين، كانت حالتهما الصحية أقل إثارةً للتساؤلات المقلقة حول هجمات الاحتلال العشوائية.
وبينما تواصل المملكة المتحدة دعمها لعنف الاحتلال في غزة، لا يمكن اعتبار استقبال طفلين للعلاج عملاً من أعمال التعاطف بقدر ما هو مجرد ذريعة رمزية تهدف إلى صرف الانتباه عن تواطؤ حكومة المملكة المتحدة في الإبادة الجماعية المستمرة، وعن مسؤولياتها السياسية والقانونية.
لماذا يُحرم الأطفال الجرحى في غزة من العلاج في المستشفيات البريطانية؟ الجواب واضح الآن: لأن جراحهم تحمل ثقلًا سياسيًا
وبما أن رعاية هؤلاء الأطفال الجرحى ستتكفل بها الجمعيات الخيرية، فإن رفض المملكة المتحدة إصدار التأشيرات يُعدّ بمثابة حصار سياسي يمنعهم من الحصول على العلاج، فبمنعها إصدار الوثائق، تترك الحكومة البريطانية هؤلاء الأطفال يعانون من إصابات وجروح دون علاج، وفي بعض الحالات تكون العواقب وخيمة.
وعلى حد علمنا، لم يصدر أي رد رسمي على هذه التساؤلات من الحكومة حتى الآن، ففي مثل هذه الحالات، غالبًا ما نفترض الجبن الأخلاقي، لكن الحقيقة الأعمق والأكثر إزعاجًا تبدو وكأنها شكل من أشكال الاتفاق الفاسد، اعتقاد بأن الأطفال الفلسطينيين أقل استحقاقًا للرعاية، وأن تقديم المساعدة من شأنه أن يُقوّض تواطؤ العديد من الدول في معاناة الفلسطينيين، هذه نتيجة عقود من التجريد من الإنسانية والعنصرية ضد الفلسطينيين.
هذه ليست إنسانية، بل هي تظاهر بالإنسانية بكل ما في الكلمة من معنى، وعرض سطحي للرعاية يُصرف من خلاله الانتباه عن المسؤوليات السياسية والمساءلة الحقيقية.
انهار النظام الصحي
في أكتوبر/تشرين الأول 2023، انهار النظام الصحي في غزة ولم يتعاف بعد قط، لقد استشهد أكثر من 18 ألف طفل، ويعيش آلاف آخرون بإصابات كارثية دون أن يتمكنوا من الحصول على المضادات الحيوية أو التخدير أو الرعاية الجراحية أو حتى الغذاء، حيث يُفاقم حصار الاحتلال الشامل والتجويع القسري معاناتهم.
ورغم كل ذلك، لا تزال العوائق قائمة، ففي فبراير/شباط 2024، أبلغ وزير الخارجية آنذاك، ديفيد كاميرون، البرلمان أن المملكة المتحدة مستعدة لتقديم مساعدة طبية للأطفال المعرضين للخطر، وشجع هذا الأمر الجمعيات الخيرية على تقديم طلبات تأشيرة، كان أحدها لطفل بُترت ساقاه السفليتان، وقد قُبل في مستشفى بريطاني ومُوّل علاجه بالكامل.
غير أن الحكومة تجاهلت الطلب، ولم يرد منها أي رد، ثم، في 13 مايو/أيار 2024 وبعد شهرين من تقديم الطلب أبلغ وزير الداخلية البرلمان أنه لم يتم استلام أي طلبات من هذا القبيل، ولكن سيتم التعامل مع أي طلبات مستقبلية بجدية.
وأبلغت وزارة الداخلية البريطانية قناة ITV News أن الطلبات لا تُعتبر مُقدمة إلا عندما يسافر الطفل أو والديه إلى مركز طلبات التأشيرات لفحص جوازات السفر والتأشيرة، وهذا أمرٌ مستحيل بالنسبة للعائلات في غزة التي عانت من الإبادة الجماعية.
وباعتبارنا ائتلافًا من الأطباء ذوي الخبرة المباشرة الذين عملوا جنبًا إلى جنب مع زملائنا الفلسطينيين في مستشفيات غزة خلال الإبادة الجماعية، إلى جانب زملاء مناصرين من المملكة المتحدة، فقد رأينا إلى أي مدى ذهبت الحكومة في التهرب من المسؤولية.
لقد أدار المجتمع المدني والمتطوعون كل جزء من عملية الإجلاء، من تصاريح ومرافقين ونقل وعمليات جراحية، ولم تُساهم الحكومة ولو بجنيه إسترليني واحد.
وبالرغم من ذلك، يحاول السياسيون البريطانيون، في العلن، الحفاظ على مظهر التعاطف، ففي فبراير/شباط 2024، تساءلت صحيفة بريطانية: لماذا يُحرم الأطفال المصابون من غزة من العلاج في المستشفيات البريطانية؟ والجواب واضح الآن: لأن جروحهم تحمل ثقلًا سياسيًا، لأن السماح لهم بدخول البلاد سيكشف تقاعس المملكة المتحدة وتواطؤها، ولأن معاناتهم مُزعجة.
لا ينبغي تسييس حياة الأطفال أبدًا، لكن هذا هو واقع جميع الأطفال الفلسطينيين، لقد سُمح لطفلين بدخول المملكة المتحدة لا لأنهما الأكثر حاجة، بل لأنهما لم يُشكلا أي تهديد للرواية الغربية، وبذلك، أوضحت حكومة المملكة المتحدة بوضوح تام حدودها الإنسانية وبينت لنا بدقة من تراه جديرًا بالرعاية، وهم بالطبع الجميع باستثناء الفلسطينيين.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)